التعليم العالي في المغرب بين إرادة التغيير وواقع التفاوت

التعليم العالي في المغرب بين إرادة التغيير وواقع التفاوت

-أسفي الأن
تربية وتعليم
-أسفي الأن19 يونيو 2025آخر تحديث : الخميس 19 يونيو 2025 - 1:38 مساءً
31e57ed8 6d7c 45f8 bfbb 049b95d4e71f - ♦محمد خرطوف *** في قلب تربة جافة، اعتاد الناس أن تنبت منها الحجارة، ولدت فكرة جامعية تشبه المعجزة، جامعة محمد السادس متعددة التخصصات التقنية ببنجرير، التي حملت اسم ملك البلاد محمد السادس، ومهندس رؤية المستقبل المغربي في مجالات الابتكار والتقدم العلمي، ليست مجرد مؤسسة أكاديمية، بل مشروع استراتيجي يعيد تشكيل ملامح المعرفة في الجنوب المتعطش للعلم والتجديد، لم تأت هذه الجامعة امتدادا لما كان، بل جاءت قطيعة مع النمط، وقفزة نحو المستقبل في بلد قرر أن يكون في صلب التغيير التكنولوجي والابتكار العلمي
ما يميز هذا الصرح ليس فقط هندسته المعمارية المبهرة، التي تنسجم مع روح الواحة والحداثة، بل فلسفته التعليمية التي تنبني على دمج المعرفة النظرية بالواقع العملي، والرهان على البحث التطبيقي عوض الاكتفاء بالتلقين التقليدي، فالجامعة لا تكتفي بمنح الشهادات، بل تصنع روادا، وتستثمر في العقول مثلما تُستثمر الطاقات في أعماق الأرض
في كل زاوية من زوايا هذا الفضاء الجامعي، تتنفس روح المستقبل، هنا، يتم التفكير في تحديات الماء والطاقة والذكاء الاصطناعي، ويتم مساءلة النموذج الاقتصادي والبيئي بشجاعة علميةـ إنها جامعة تتحدث بلغة العالم، وتفكر بمنطق الإنسان الكوني، ولكنها لا تنسى جذورها، ولا تفرط في الانتماء
بفضل شراكاتها الدولية، وانفتاحها على أحدث ما توصلت إليه مراكز البحث العالمية، أضحت الجامعة مختبرا حيا للتجارب العلمية والبيداغوجية، وقاعدة صلبة لبناء مغرب المعرفة والتفوق، الطلبة هنا ليسوا أرقاما، بل مشاريع بشرية ترافق، وتصقل، وتعد لتكون في طليعة التحول الذي ينشده الوطن.
في هذا المكان، لا يُنظر إلى الجامعة كمؤسسة عمومية تقليدية، بل كمنصة استراتيجية لإنتاج الحلول، ومركز إشعاع يستقطب الكفاءات ويزرع الأمل في محيط لا يزال يعاني من فجوة العدالة المجالية والمعرفية، هي باختصار، رسالة واضحة تقول إن المعرفة ليست ترفا، بل خيار وجودي لبناء مغرب المستقبل
لكن إن كانت بنجرير تمثل الوجه المضيء لطموح المغرب في بناء جامعة من الجيل الجديد، فإن خريطة التعليم العالي في باقي ربوع المملكة لا تزال تشهد اختلالات عميقة، تكشف عن فجوة صارخة بين التصور والمؤسسة، بين الخطاب والممارسة، وبين الطموح الوطني والواقع الجامعي اليومي، في جامعات كثيرة، تغيب الجودة وتحضر الأرقام، ويختزل الطالب في رقم داخل منظومة مثقلة بالاكتظاظ، تعاني من ضعف البنيات التحتية، وندرة الموارد البشرية المؤهلة، وتراكمات سنين من التدبير البيروقراطي
القاعات المزدحمة، والبرامج المتقادمة، والأساتذة المنهكون بين البحث عن التمويل والتدريس والتقويم، تكشف أن أزمة التعليم العالي ليست عرضا طارئا، بل نتيجة تراكم تاريخي لغياب رؤية إصلاحية حقيقية تنصت للفكرة أكثر من الخطب، وللجامعة كمنارة لا كمجرد مرفق إداري،وحين يجبر الطالب على حفظ نظريات دون أن يرى أثرها في الواقع، يفقد الحافز، وتخفت شرارة الإبداع، ويتحول التعلم إلى عبء زمني أكثر منه مغامرة فكرية
أكثر ما يثير القلق هو اتساع الهوة بين الجامعة وسوق الشغل، شباب يتخرجون من الجامعات كل سنة، حاملين شهادات لا تعترف بها المقاولات ولا تتلاءم مع حاجيات الاقتصاد المعولم، وفي غياب جسور حقيقية بين الجامعة والمحيط السوسيو-اقتصادي، يصبح الخريج عالقا في منطقة رمادية، لا ينتمي للبطالة الرسمية ولا للاندماج الفعلي، أما البحث العلمي الذي يعتبر الركيزة الاساسية لجميع الحقول التجاربية العلمية منها والتفنية، ولكن للأسف في سبات عميق، و يبقى رهينا بميزانيات هزيلة ،وتمويلات مشروطة، في الوقت الذي تتسابق فيه دول أخرى لربح معركة المعرفة عبر دعم الباحثين وتحويل الجامعات إلى مصانع أفكار
ومع كل هذا، لا تزال بعض الجامعات تسير وفق نماذج كلاسيكية تتعامل مع الزمن الجامعي كوقت رتيب، لا يتفاعل مع الثورة الرقمية ولا مع أسئلة الذكاء الاصطناعي، في وقت أصبحت فيه التكنولوجيا تفرض إعادة النظر حتى في معنى “التعلم” نفسه، ففي عصر لم يعد فيه الوصول إلى المعلومة مشكلة، تتحول الجامعة من مكان لتلقين المعرفة إلى فضاء لتوليد المعنى، ولتكوين الإنسان المفكر، النقدي، القادر على بناء السؤال قبل البحث عن الجواب،ورغم المجهودات المبذولة على مستوى تأهيل بعض المؤسسات، وإطلاق مشاريع إصلاحية طموحة، إلا أن التفاوت الجهوي في البنية والتكوين لا يزال حادا، جامعات في المركز تعيش في زمن، وجامعات في الأطراف تجر خلفها أعطابا جغرافية، وضعف التمويل، وتهميش القرار، وهو تفاوت لا يهدد فقط مبدأ العدالة، بل يهدد مبدأ الانتماء ذاته، حين يشعر طالب في الجنوب أو الهامش أن حقه في تعليم جيد هو ترفٌ غير متاح
ولعل ما ينقص اليوم، أكثر من البنيات والتجهيزات، هو الإرادة السياسية الجريئة لتطوير منظومة التعليم العالي من جذورها، إرادة تضع الأستاذ في قلب الإصلاح، وتمنح الطالب كرامته كفاعل لا كمتلق سلبي، وتربط الجامعة فعليا برهانات التنمية الشاملة، من الاقتصاد إلى الثقافة، ومن البيئة إلى القيم
الجامعة ليست بناء هندسيا، بل بناء وطني للوعي، وما لم نبني هذا الصرح على أسس من الحرية الفكرية، والاستقلال الأكاديمي، والمساءلة الرصينة، سنظل ندور في حلقات إصلاحية مغلقة، يعلو فيها الضجيج ويغيب الأثر
ليس الإصلاح الجامعي وثيقة تصاغ في المكاتب، ولا مخططا يسوَق في المؤتمرات، بل هو مشروع حضاري يحتاج إلى شجاعة ثقافية قبل الميزانيات، وإلى وعي مجتمعي يقرّ بأن مستقبل المغرب يبدأ من قاعة الدرس، ومن حوار فكري جريء بين الأستاذ والطالب، ومن جامعة تؤمن بأن دورها يتجاوز التكوين المهني إلى إنتاج المعنى والمواطنة والوعي النقدي
المطلوب اليوم ليس فقط إعادة هيكلة بنيات التعليم العالي، بل إعادة تعريف الغاية منه:
هل نريد جامعة تخرج موظفين أم مفكرين؟
هل نكتفي بالكفاءات التقنية أم نطمح لبناء مواطن حرو منفتح و وفاعل في زمانه ومكانه؟
علينا أن نعيد الاعتبار للبحث العلمي كرافعة إستراتيجية، وأن نربط الجامعة بحاجات المجتمع لا بشروط السوق وحدها، وأن نمنح الأستاذ موقعه الطبيعي كضامن للحرية الأكاديمية، وموجه للأجيال، لا كأجيرٍ محاصر بالمهام والهامش
العدالة المجالية في الولوج إلى جامعة جيدة، دعم تكوين الأستاذ الجامعي، رقمنة المناهج، ربط التعليم بسياقه البيئي والاجتماعي، الانفتاح على اللغات والتخصصات الناشئة، كلها مداخل ممكنة لبناء نموذج جامعي مغربي خاص، متجذر في الواقع، ومنفتح على العالم
إن جامعة محمد السادس ببنجرير كانت ومضة أمل، لكنها لا تكفي وحدها لصناعة التحول،ما نحتاجه هو سياسة وطنية تضع التعليم الجامعي في صدارة الأولويات، لا كعبء اجتماعي بل كقوة استثمار طويلة الأمد، تخلق الثروة من الفكرة، وتؤسس لغد لا تُقاس فيه قيمة الأمم بما تملك، بل بما تعرف، وبما تُبدع
ففي زمن تتسارع فيه التحولات، لم يعد لدينا ترف الوقت، ولا مجال للانتظار، إما أن نبني جامعات تليق بالمستقبل، أو نبقى رهائن ماضٍ لا يعيد نفسه، بل يعرقل سيرنا نحو ما يجب أن يكون
رابط مختصر

عذراً التعليقات مغلقة