
ربما يعتقد البعض أن هذا التوصيف متسرع ومبالغ فيه، والحقيقة المُرّة التي تعرفها كل ساكنة أسفي، أن “قصر البحر” قريب جدا من هذا المصير، بعد أن شهد يوم الإثنين فاتح شتنبر 2025 انهيارا جديدا في جزء من برجه الغربي، ثم سقط، وهذه السنة أيضا، يوم الخميس 3 أبريل 2025، في قعر المحيط “باب القوس” المتواجد بالواجهة الغربية للمعلمة التاريخية، بعد موسم شتاء عرف تساقطات مطرية ورياح قوية، أدت إلى تفتت الحجارة المشكلة للبناية التي فقدت تماسكها، وهو ما أعاد النقاش إلى الواجهة حول واقع المعلمة العريقة ونجاعة أشغال الترميم الجارية منذ بضعة أشهر، وتحصين وتدعيم الواجهة البحرية للمعلمة التاريخية، ورد الاعتبار لها وجعلها مركزا للتراث البحري الوطني، وإعادة بناء القسم المنهار على مستوى الواجهة الغربية بعد دراسات جيولوجية وتقنية، وبناء رصيف وقائي على طول 257 متر خطي، وتدعيم جرف أموني من أمواج البحر بمكعبات مخصصة لهذا الغرض، بميزانية تقدر بحوالي 13.5 مليار سنتيم، في وقت تواجه فيه جهود الترميم والتدعيم الحالية تحديات خطيرة بسبب طبيعة الموقع الهشة، وقوة العوامل الطبيعية التي تستمر في التأثير على القلعة.
تتمة المقال تحت الإعلان
ويعد هذا الانهيار استمرارا لسلسلة من الانهيارات المتتالية التي شهدتها المعلمة التاريخية على مر السنين، والتي دفعت منظمات المجتمع المدني وفعاليات المدينة إلى دق ناقوس الخطر، والمطالبة بالتدخل الفوري لحمايتها من خطر الغرق في قعر المحيط الأطلسي، وقد شهد “قصر البحر” في السنوات الأخيرة عدة انهيارات جزئية لأجزاء من أسواره وأبراجه، مما دفع إلى إغلاقه أمام الزوار وسط مخاوف متزايدة من انهياره الكامل.
هذا الانهيار ليس الأول من نوعه، فقد تسببت الأمطار العاصفية التي شهدتها مدينة أسفي يوم 18 مارس 2017 في انهيار جزء آخر من “قصر البحر”. وسبقته انهيارات أخرى، كان أولها ما أوردته جريدة “lavigie Marocaine” من أن أمواجا عاتية ضربت يوم 28 يناير 1937 الزاوية الجنوبية من “قصر البحر”، فأسقطت جزء من السور في البحر ومعه مدفعان من البرونز، لتنفذ بعدها مصلحة الفنون الجميلة والآثار التابعة لإدارة الحماية، مشروعا كبيرا لإصلاح “قصر البحر” كمعلمة تاريخية وثقافية، استغرقت مدة تنفيذه عشر سنوات من سنة 1954 إلى 1963، وفي 12 دجنبر سنة 2007 انهار جزء من جدار الواجهة الغربية لـ”قصر البحر”، ليتبعه بعد ذلك انهيار معظم البرج الجنوبي الغربي يوم 5 فبراير 2010.
فـ”قصر البحر” معرض لخطر السقوط في البحر، مما يهدد بتدمير هذا المعلم التاريخي الهام.
وأسباب انهيارات “قصر البحر” بأسفي متعددة، ترتبط بشكل رئيسي بالعوامل الطبيعية والبشرية التي أثرت على قاعدة القلعة وجرف أموني الذي بني عليه القصر، وأهم الأسباب هي:
1) بدأ حصن “قصر البحر” في الانهيار بسبب الظواهر الطبيعية كالرياح القوية والأمواج العاتية المستمرة التي تتكسر على الصخرة التي بني عليها، مما أدى إلى تآكلها وتضعيف بنيتها وتكوين الكهوف والمغاور والفراغات، حيث تضغط مياه الأمواج بعنف على الصخر، وتحتجز الهواء داخل الشقوق والفواصل، مما يؤدي إلى توسيع تلك الشقوق والتحطيم التدريجي للصخور، ويترافق ذلك مع التأثير التحتي (النحت) الذي يزيل تدريجيا مواد الصخر عبر الاحتكاك بالحطام والصخور الأخرى المدفوعة بالأمواج. هذا التآكل يساهم في انهيارات دورية بالجرف الصخري، مما يؤثر على ثبات أسس القصر، ويؤدي إلى تهاوي أجزاء منه في البحر.
كما ساهمت التساقطات المطرية والرطوبة الشديدة في تسريع عملية تآكل الصخور والتسبب في انهيارات الموقع الأثري، وكذلك ضعف الدعم الهيكلي للصخور تحت القلعة، مثل ملء الشقوق بالخرسانة المسلحة التي لم تعالج المشكلة الجذرية المتمثلة بالجرف نفسه، والإهمال في الصيانة وتأخرها وعدم كفاية التدخلات الترميمية لحماية القصر.
2) تسبب بناء رصيف ميناء أسفي عام 1930 في تغيير مسار الأمواج والتيارات المائية نحو جرف أموني، الذي يستند عليه القصر، وبالتالي، بات الضغط مباشرا على “قصر البحر”، الذي لم يعد يقوى على الصمود في مواجهة الأمواج، مما زاد من قوة تآكل القاعدة الصخرية وتصدعها، كما أن مياه المحيط الأطلسي دخلت تحت القصر ووصلت إلى شوارع المدينة، التي أصبحت هي الأخرى مهددة بالانهيار.
وجاء في عريضة إلكترونية عبر موقع العرائض العالمي “أفاز”، أطلقها حقوقيون وفاعلون مدنيون بأسفي، أن “التعرية الجوفية التي تسببت في نكبة جرف أموني ليست بفعل عوامل طبيعية فقط، بل هي أيضا نتيجة تخطيط تنموي متسرع ابتدأ في ستينيات القرن الماضي بإحداث مركب أسفي الكيماوي دون إحداث ميناء خاص به، حيث أن شاطئ المدينة تم تحويله إلى حوض فوسفاط”.
3) لعبت السكة الحديدية دورا أساسيا في انهيارات “قصر البحر”، حيث تمر بجانبه يوميا على مسافة لا تقل عن أربعة أمتار، مما أدى إلى زعزعة أساسات الصخرة التي بني عليها القصر والتأثير المباشر على استقراره، وظهور تشققات في المعلمة نتيجة الاهتزازات المتكررة الناجمة عن حركة القطارات اليومية بين رصيف البواخر ومعامل الفوسفاط.
ويعود تاريخ بناء السكة الحديدية بالمدينة إلى فترة الحماية الفرنسية في المغرب خلال أوائل القرن العشرين، وتم افتتاح خطوطها الأولى بين سنة 1914 و1927، وبناء السكة الحديدية كان جزء من هذه الشبكة، كما أضافت مصادر ودراسات، أن مكتب السكك الحديدية ومكتب الفوسفاط يتحملان مسؤولية كبيرة في تدهور وضع القصر، بسبب الاهتزازات التي تولدها حركة القطارات.
4) إذا كانت المدن تفخر بمعالمها، وبما لديها من مآثر تاريخية تختزل ذاكرة من سكن أرضها، فإننا بأسفي لم نجد ممن تعاقبوا على مجالس المدينة ووزارة الثقافة والتجهيز وغيرها، من أولى هذا الموضوع ما يستحق، فالتفكير في إنقاذ والحفاظ على “قصر البحر” بأسفي كان دائما غائبا ومنسلا من جدول الأولويات. والمسؤولون على اختلاف مشاربهم، محليا ووطنيا، يتنصلون من مسؤولية الترميم والإصلاح والتدعيم بداعي التكاليف الباهظة.
وعلى الرغم من تصنيفه كمعلم تاريخي، يعاني “قصر البحر” من غياب برامج الصيانة والترميم اللازمة، مما جعله عرضة للتدمير، وفي سبيل وضع حد لخطر انهيار هذا الصرح التاريخي، بدأت السلطات في عام 2000 بتنفيذ حل يتمثل في ملء الشقوق والتصدعات الحادثة بالخرسانة المسلحة، لكن هذا الحل فشل لأن المشكلة كانت نابعة من الصخرة التي بنيت عليها القلعة، وليس من المبنى نفسه.
افتتح “قصر البحر” بصفة رسمية أمام الزوار من داخل وخارج المغرب سنة 1963، لكن تشققاته الكثيرة وتآكل قاعدته السفلية، جعل السلطات المحلية ووزارة الثقافة تقرر إغلاقه سنة 2010 خوفا من انهياره المفاجئ وحفاظا على سلامة زواره، ولم يكن “قصر البحر” الأول ولن يكون الأخير في مسلسل تهميش التاريخ العمراني لمدينة أسفي، فالحكاية ترجع لعقود مضت، حينما بدأت المباني التاريخية تتساقط بفعل معاول الهدم والإهمال دون أن يتدخل أحد لمنعها، ففي غضون سنوات فقدت المدينة كثيرا من معالمها الرئيسية وملامحها.
“قصر البحر” بأسفي، المتواجد في قلب المدينة على المحيط الأطلسي، القريب من المدينة العتيقة و”ساحة سيدي بوذهب”، و”ساحة الاستقلال” و”ساحة مولاي يوسف”، حصن عسكري صلب ومنيع، رحب وضخم، يشد إليه أنظار كل زوار وضيوف المدينة، صُنف كمعلم تاريخي بموجب القرار الصادر في 7 نونبر 1922، ولأهميته أصدرت السلطات الفرنسية طابعا بريديا يحمل صورة القلعة أثناء استعمار المغرب.
اكتمل بناء “قصر البحر” عام 1523، واستدعى إنجازه أكثر من ثماني سنوات من العمل، عندما احتله البرتغاليون كأول موقع لدى دخولهم المدينة، حيث استخدموه بالنظر لموقعه الاستراتيجي المتصل مباشرة بالبحر، كمكان لإقامة الجنود وتخزين الأسلحة والبضائع، فيما اضطلعت أبراجه بوظيفة المراقبة العسكرية.
كانت القوى الأوروبية تتنافس للسيطرة على الموانئ الاستراتيجية على طول السواحل الإفريقية، حيث عاش المغرب فترة صعبة مع ظهور بعض التجمعات السياسية المستقلة عن سلطة الوطاسيين، وخلال هذه الفترة، كان القائد بن فرحون هو الحاكم لإمارة أسفي المستقلة، حيث شهدت المدينة سلسلة من الاضطرابات على إثر الصراعات المحتدمة بين القادة المحليين في المنطقة من أجل السيطرة عليها، وفي غفلة من أهالي أسفي الذين كانوا في حالة اقتتال، عمد الغزاة البرتغاليون إلى تسريب الأسلحة والجنود إلى الحصن، ومنها اقتحمت قواتهم المدينة.
وقام البرتغاليون بعد احتلال أسفي، بتشييده في موقع استراتيجي يطل مباشرة على المحيط الأطلسي، وهو من تصميم وتخطيط المهندس البرتغالي بويتاك Boytac، وقد عثر على نقش بالحرف الأول من اسمه بأحد طوابق البرج، وهو من أكبر الحصون البرتغالية المشيدة وفق طراز الفن المعماري “الإيمانويلي” في القرن السادس عشر، وكان الهدف الرئيسي من بنائه تأمين الحماية للمدينة التي أصبحت ميناء مهما لتجارة البرتغاليين.
كان “قصر البحر” يستخدم في البداية كوكالة تجارية برتغالية Feitora من قبل التجار البرتغاليين الوافدين على أسفي، ثم تحول إلى حصن عسكري وَسكنا حصينا لحكام مستعمرة أسفي من القباطنة البرتغاليين المنحدرين من أسر برتغالية نبيلة، وهو صلة وصل بين الماضي والحاضر، ومبعث فخر للمدينة، ودليلا على عراقتها وأصالتها، وتحفة معمارية نادرة، تقف شامخة في قلب المدينة، تصارع الرطوبة وأمواج البحر في غياب الحلول الناجعة لإنقاذه من التشققات والتصدعات والانهيارات.
كان الاسم الأول الذي أطلق على الحصن عند تأسيسه هو قلعة “كاستيلو نوفو” (القلعة الجديدة)، تمييزا له عن القصبة الموحدية القديمة (دار السلطان)، ثم تحول بعد ذلك إلى “القلعة البرتغالية”، وأطلق عليه الأمازيغ اسم “برج أبلاط”، أي برج البلاط أو القصر، ونعته الفقيه الكانوني بوصف “القصبة السفلى” بالنظر إلى ارتفاعه عن البحر، مقارنة له بـ”القصبة العليا” الموحدية، وفي عهد حكم السعديين كانت القلعة تسمى “دار البحر”، وتذكر بعض المصادر أن الصحافي والكاتب جيل بورلي، الذي زار المنطقة كجزء من أنشطته الاستكشافية قبل الاحتلال الفرنسي للمغرب في القرن العشرين، هو من أطلق عليه اسم “قصر البحر” château de la mer سنة 1919، عندما نشر مقالا في مجلة “فرنسا المغرب”، وهي التسمية التي لازالت مستمرة إلى اليوم.
ويستحضر سكان مدينة أسفي وزوارها ذاكرة “قصر البحر” ومعالمه التاريخية التي كانت فضاء تواصليا وثقافيا وبيئيا، عرف تنظيم عدة فعاليات مثل السهرات الفنية والعروض المسرحية ومعارض الفنون التشكيلية، إلى جانب تنظيم مسابقات رياضية في كمال الأجسام وحمل الأثقال، خاصة في سنوات السبعينيات والثمانينيات، أيام كانت المدافع التاريخية تطل على البحر وتحرسه.
إن سقوط “قصر البحر” بأسفي سيمثل خسارة كبيرة للذاكرة التاريخية للمدينة، لأنه تحفة معمارية فريدة ذات قيمة تراثية كبيرة، ورمزا تاريخيا وثقافيا لهوية المدينة، يجمع بين التاريخ والفن والهندسة المعمارية العسكرية المؤرخة لحقبة الأطماع الاستعمارية المانويلية، فهو معلم سياحي يجب أن يزوره كل زائر للمدينة، يتيح لك الاستمتاع بإطلالة رائعة على البحر، ويُمكن الوصول إلى موقع القلعة من خلال المرور عبر ممر تحت الأرض، غالبا ما يتخلل الهواء النقي هذا المكان من خلال الأمواج التي تضرب الجدار العالي للقلعة والتي تحدث في النفس أثرا جميل، ويمكنك أيضا الاستمتاع بإطلالة جميلة من القلعة على مدينة أسفي بأكملها.
المصدر : https://www.safinow.com/?p=22295
عذراً التعليقات مغلقة