أسفي على آسفي…

أسفي على آسفي…

-أسفي الأن
اراء بلاقيود
-أسفي الأن18 ديسمبر 2025آخر تحديث : الخميس 18 ديسمبر 2025 - 6:42 مساءً
أسفي على آسفي…
1 2 - بقلم رضوان أكدال
آسفي ليست مدينة منكوبة اليوم فقط.
آسفي… كانت منكوبة قبل المطر.
قبل 37 ملم، وقبل السيول، وقبل أن تتحول ساعةٌ واحدة إلى حزنٍ طويل.

المنكوب الحقيقي ليس من غرق في الماء وحده،
بل من عاش سنواتٍ في مدينةٍ تُراكم الإهمال بصمت،
حتى إذا جاء المطر… لم يأتِ ككارثةٍ طبيعية،
بل جاء كمرآةٍ قاسية تُعرّي الحقيقة.

سبعة وثلاثون روحًا رحمهم الله جميعا…
والبعض ما زال يكرر: “فقط 37”.
وكأن الألم ينقص حين ينقص الرقم،
وكأن حياة الإنسان تُقاس بالحصيلة لا بالكرامة.

لكن آسفي لا تُحصي أبناءها بهذه البرودة.
آسفي تعرف أن كل ضحية كانت عالمًا كاملًا:
أمًّا، أبًا، شابًا، طفلةً، بيتًا، رزقًا، ذاكرةً، وحلما لم يكتمل.

ثم نصل إلى السؤال الذي لا يحبّه أحد:
لماذا آسفي؟
ولماذا تتكرر المآسي عند أول اختبار؟

الجواب ليس في السماء.
الجواب في الأرض… وفي ترتيب الأولويات.

في مدن الفوسفاط تحديدًا، هناك مفارقة لا تخفى على أحد:
ثروةٌ تمرّ من هنا…
لكن الحياة لا تتحسن بالضرورة هنا.
القطارات تمضي…
والغبار يبقى.
المعامل تشتغل…
والمعدن يُغادر المكان،
ويظلّ الهواء مثقلاً بروائح لا تخطئها الأنوف…
والأحياء الهشة تظل هي نفسها،
ومجاري الماء تُنسى،
والبنيات الأساسية تُؤجل،
والإنسان يبقى آخر بندٍ في جدول الاهتمام.

آسفي تشبه خريبكة.
وتشبه اليوسفية.
وتشبه مدنًا أخرى مرتبطة بمنطقٍ واحد:
مدينةٌ تُحاصرها الثروة من جهة،
وتُحاصرها الهشاشة من جهة أخرى،
فلا هي استفادت من “الهبة” كما ينبغي،
ولا هي نالت حقها في التنمية، ولا حتى “الحماية” كما يجب؛
مرةً من وفرة المياه، وتارةً من قلّتها،
في الحالتين نتيجة سياسات استنزاف متراكمة… كما في خريبكة

وهنا بالضبط تأتي الأمطار لتفضح ما كان مستورًا.
قيل — وما يُقال في المدن الجريحة لا يأتي من فراغ —
إن السور الذي أُقيم لحماية سكة قطارات الفوسفاط،
هو نفسه الذي قطع على الماء بعضا من طريقه الطبيعي نحو البحر،
وغيّر مساره،
ودفعه في اتجاه الأحياء الهشة،
نحو الناس،
نحو البيوت التي لم تُحسب في معادلات الحماية.

صورة تختصر مأساة مدينة كاملة:
الفوسفاط محمي… والإنسان لا.

كما في خريبكة،
يبدو أحيانًا أن استغلال الثروة أهم من كل شيء:
أهم من التنمية،
أهم من الماء وذاكرته،
أهم من الفرشة المائية و الأراضي الفلاحية…
أهم من الأرض ومجاريها القديمة،
وأهم — للأسف — من الإنسان ومن العطّاشة وأبنائهم،
الذين شقّوا الصخر،
وبنوا المدن بعرقهم،
ثم وُضعوا خارج معادلة الإنصاف والحماية.

حين تُبنى الحماية حول البنية الصناعية،
ولا تُستكمل حماية المجال الحضري والساكنة،
فإن أول سيول ستُظهر الخلل… بلا رحمة.

المطر لم يخترع المأساة.
المطر فقط ضغط على الجرح… فانفتح.

آسفي، مثل خريبكة، عاشت سنواتٍ تحت منطقٍ قصير النفس:
حلول ترقيعية، وعود موسمية، ومشاريع واجهة،
وفي العمق…
تراكمت أعطاب التخطيط،
وتوسّع العمران فوق ذاكرة المكان،
وضاعت خطوط الوديان في الخرائط…
لكنها لم تضِع في ذاكرة الماء.

الماء لا ينسى مجراه.
نحن الذين ننساه.
نحن الذين نبني فوقه،
ونقنع أنفسنا أن الإسمنت أقوى من الجغرافيا.

واليوم، بدل أن يكون هذا الحزن نهاية خبر،
يجب أن يكون بداية وعي:
وعي بأن مدن الثروة لا يجب أن تبقى مدن الهشاشة.
وعي بأن “التنمية” ليست بنايات وإعلانات، بل حماية للحياة.
وعي بأن كرامة الإنسان أولًا، قبل أي حسابات أخرى.

رحم الله من رحلوا في آسفي،
ورحم الله كل روحٍ تُسجل في مدننا كأنها حادث عرضي.
وإذا كانت هذه الأمطار قد كشفت الحقيقة،
فلا يجوز أن ندفن الحقيقة مع الضحايا.

أسفي على آسفي…
وأسفي على خريبكة…
و أسفي على كل المدن الغنية المنكوبة…
فآسفي اليوم ليست وحدها.
هي صوتٌ من أصوات مدن الفوسفاط كلها،
تقول لنا:
لا تُؤجلوا الإنصاف…فكل ثروة لا تُنمّي الإنسان ولا تحميه، تصبح بلا قيمة.

‎آسفي ليست حادثًا عابرًا.
‎ولا استثناءً مؤلمًا.
‎هي مرآة لمدن الثروة حين لا تتحول الثروة إلى تنمية ولا حماية للإنسان.

‎أسفي على آسفي…
‎وأسفي على كل المدن الغنية المنكوبة.

إبن خريبكة… و إبن العطاشة
رضوان أكدال

رابط مختصر

عذراً التعليقات مغلقة