
تامنصورت، مدينة تتأرجح بين الحلم بالتمدن وكوابيس العزلة، لا يفصلها عن مراكش سوى مسافة قصيرة، لكن يبدو أن الزمن وحده يطول بينها وبين العاصمة الحمراء أومدينة ال 7رجال ، المسافة تقطعها الأجساد، لا المركبات، أجساد تقف في انتظار بلا نهاية هناك، في الأولى او في الثانية او بينهما، في طقس قد يكون بردا قارصا أو حرا لاهبا،
أما “الطوبيس” حين يأتي، فهو أقرب إلى تابوت حديدي يتحرك بآهات الركاب لا بالوقود،ركابه كأنهم هاربون من زلزال، مكدسون فوق بعضهم البعض، لا فرق بين من دفع التذكرة ومن تسلل من الباب الخلفي،وجوه أنهكها التعب، أعين او عيون فقدت الأمل في تغيير أي شيءـ لغة الحوار داخل هذا الفضاء الكئيب تبدأ بالتأفف وتنتهي بالشتم الجماعي، حيث تصبح الدولة او المجلس الجماعي موضوعا مفتوحا للسخرية، والنظام مادة دسمة للتهكم، والحقوق كلمات جوفاء لا تليق بهذا الجو المختنق.
ليس غريبا أن تتحول الحافلة إلى مسرح للفوضى؛ لا قوانين، لا التزامات، لا احترام لسن، أو مرض، أو حتى امرأة حامل، الكل في سباق مع الوقت أو مع الضياع أو مع أعصابهم التي شارفت على الانهيار، تسأل نفسك:
كيف لبلد يراهن على السياحة، ويتغنى بمشاريعه الكبرى، أن يبقي أبناءه في قبضة خردة حديدية على وشك الانفجار؟
كيف لمن يُنادي بالجهوية المتقدمة والتنمية الترابية أن يعجز عن توفير وسيلة نقل تحترم كرامة المواطنين؟
إننا لا نتحدث هنا عن رفاهية، ولا عن حافلات مكيفة بخدمة واي فاي، ولا عن مواعيد دقيقة كما في طوكيو أو كوبنهاغن، نحن نتحدث عن حق أولي بسيط: أن تنتقل من نقطة إلى أخرى دون أن تشعر بأنك في اختبار بقاء، فرغم الشكاوى المتكررة، والمقالات الغاضبة، والمبادرات التي لا ترى النور، يبقى الحال كما هو عليه، ويظل “الطوبيس” شاهدا على تخلف يومي نعيشه ولا نستطيع الخلاص منه..
ربما الحل الوحيد أن نستورد قليلا من الكرامة مع الحافلات، أو أن نعيد تأهيل الإنسان أولا، قبل أن نحلم بنقل عمومي محترم، وإلى ذلك الحين.. ستبقى “حليمة” على عادتها القديمة، وسنظل نحن في مقاعد العار، ننتظر وسيلة نقل تقودنا نحو وطن نحترم فيه ولو قلي…لا
تماما كما يعود “الطوبيس” المهترئ كل صباح ليعيد عرض المسرحية الرديئة نفسها، نعود نحن لنحجز مقاعدنا ، أو بالأحرى نقاط وقوفنا ،في هذا السيرك المتنقل الذي لا ينتهي.
نكذب على أنفسنا ونقول “غادي نصبر، راه هادشي غيرمؤقت”، فنفاجأ بأن المؤقت قد تحول إلى دائم، وأن الحلم بخطوط نقل محترمة أصبح يصنف ضمن فئة الخيال العلمي، جنبا إلى جنب مع السياحة في المريخ وزرع الذكاء في العقول الخشبية..
فمن كان يظن أن التنقل من تامنصورت إلى مراكش سيكون أقرب إلى مغامرة في أدغال الأمازون؟
من كان يتوقع أن انتظار طاكسي كبير سيحتاج إلى إمدادات غذائية وخيمة صغيرة تقيك حر الشمس أو لسعات البرد؟
من كان يعتقد أن “الكار” سيصبح مدرسة في الصبر، وتمرينًا يوميًا على فنون التعايش مع روائح العرق، وأصوات الشجار، وصرخات المحركات المحتضرة؟
لكن، يا سادة، لا تقلقوا…
فالأمور تحت السيطرة، والابتسامة لا تفارق وجوه المسؤولين، فهم يسافرون في سيارات مكيفة بنوافذ مظللة، لا يسمعون صوت “كلاكسون” ولا يشتمّون رائحة احتراق الزيت ولا البنزين، ولا تتبلل أكتافهم بمطر يتسرب من شقوق السقوف، ولا يشاركوننا متعة الوقوف على رجل واحدة في حافلة تلفظ أنفاسها الأخيرة كل خمس دقائق..
أما نحن، سكان المغرب العميق ، أو العالقين في فوهة الانتظار الأبدي، فلسنا سوى كومبارسات في مشهاد تمثيلية لا تنتهي، نمثل دور”المواطن الصبور”، ونجيد التنهيد والاحتجاج الناعم، ونحمل في قلوبنا كمية من الغضب تكفي لتفجير مكان، لكننا نطفئها كل صباح بكأس من اليأس، ونقول “آش غانديرو؟ الديار ديار الله ،الله يعفو”
والأدهى من ذلك، أن كل من يمر من هذا الجحيم اليومي، لا يفكر في الثورة، بل فقط في أن يصل، أن يصل فحسب ،ولو جثة هامدة داخل تابوت معدني يسير على ثلاث عجلات ونصف، أما “المخططات الاستراتيجية” للنقل الحضري، فهي مكتوبة بالحبر السري، لا تقرأ إلا تحت ضوء المصالح، وهي كما نعلم، لا تضاء أبدا حين يتعلق الأمر بالفقراء
وفي النهاية، يبقى الأمل الوحيد في أن ينقرض هذا الجيل كله، أو أن يصحو المجلس الجماعي ذات فجر، فيرسل إلينا حافلة حقيقية، لا تكون مصنوعة من عظام الديناصورات وذكريات الحرب العالمية الأولى، إلى ذلك الحين، نوصيكم بالصبر،والابتعاد عن الأبواب، فقد تتطاير أثناء السير..
المصدر : https://www.safinow.com/?p=21773
عذراً التعليقات مغلقة