المتصرف التربوي ونظام اساسي مستقل: من مطلب فئوي متوهم الى ضرورة اصلاحية

المتصرف التربوي ونظام اساسي مستقل: من مطلب فئوي متوهم الى ضرورة اصلاحية

-أسفي الأن
اراء بلاقيود
-أسفي الأن21 ديسمبر 2025آخر تحديث : الأحد 21 ديسمبر 2025 - 8:11 مساءً
المتصرف التربوي ونظام اساسي مستقل: من مطلب فئوي متوهم الى ضرورة اصلاحية
5445 - لم تعد مطالبة المتصرف التربوي بنظام اساسي مستقل مجرد نقاش نقابي عابر، ولا نزعة فئوية تبحث عن امتيازات اضافية، بل تحولت، بفعل الممارسة المهنية اليومية، الى ضرورة بنيوية تفرضها طبيعة المدرسة العمومية وتعقد رهاناتها. فخلف اسوار المؤسسات التعليمية، تمارس القيادة التربوية في صمت، داخل اطار قانوني هش، لا يعكس حجم المسؤوليات ولا ثقل الادوار.
المتصرف التربوي ليس موظفا اداريا بالمعنى الضيق، ولا مدرسا غادر القسم فقط، بل هو فاعل مركزي يجمع بين القيادة والتدبير والتاطير التربوي. في يوم مهني واحد، قد يجد نفسه مطالبا بتدبير نزاع بين تلاميذ، واستقبال اسرة محتجة، وتتبع السير التربوي، واعداد تقارير استعجالية، وتوقيع وثائق مالية، ومواكبة لجنة تفتيش، وضمان امن المؤسسة وسلامة مرتفقيها. هذه المهام لا تمارس في سياق هادئ، او ضمن توصيف وظيفي دقيق، بل في تداخل دائم بين الطارئ والمخطط، مما يجعل الادارة التربوية وظيفة مفتوحة على الضغط والمخاطر واتخاذ القرار، لا مجرد تنفيذ تعليمات.
يتجلى هذا الثقل بوضوح في عمل مدير المؤسسة التعليمية، الذي يعد المسؤول الاول عن السير العام للمؤسسة. فهو مطالب بتدبير الموارد البشرية في ظل خصاص متكرر، واعادة توزيع الحصص، وضمان استمرارية الدراسة رغم الغيابات، الى جانب الاشراف على الميزانية، وتتبع الصفقات، وتدبير العلاقة مع الشركاء والسلطات المحلية. وفي حالات الازمات، من حوادث مدرسية او احتجاجات او اختلالات بنيوية، يجد المدير نفسه في واجهة المساءلة، مطالبا بتبرير ما لا يملك دائما سلطة اصلاحه.
كما تتجلى تعقيدات الممارسة المهنية في مهام الحارس العام، سواء في الداخلية او الخارجية، حيث لا يقتصر دوره على ضبط الغياب والنظام، بل يمتد الى تدبير الزمن المدرسي اليومي، ومعالجة حالات التأخر والانقطاع، والتدخل في النزاعات بين التلاميذ، والتواصل المستمر مع الاسر. في الداخليات، يضاف الى ذلك السهر على ظروف الايواء والتغذية والانضباط الليلي، وتحمل مسؤولية السلامة الجسدية والنفسية للتلاميذ خارج الزمن الدراسي، وهي مهام ذات طابع تربوي واجتماعي وامني في آن واحد، غالبا دون سند قانوني واضح يحمي صاحبها.
اما الناظر، فيمارس وظيفة تنسيقية دقيقة بين الادارة وهيئة التدريس، حيث يسهر على تنظيم جداول الحصص، وتتبع استقرار الاطر التربوية، وضمان احترام المذكرات التنظيمية، ومعالجة الاختلالات المرتبطة بسير الدراسة. وهو في كثير من الاحيان مطالب بالتوفيق بين متطلبات ادارية صارمة وواقع تربوي معقد، في ظل ضغط زمني كبير وغياب سلطة تقريرية واضحة، ما يجعله في موقع مسؤول دون صلاحيات كافية.
ويواجه مدير الدراسة بدوره تحديات يومية مرتبطة بتتبع التعلمات، وتنفيذ مشاريع الدعم التربوي، ومواكبة نتائج التقويم، والحرص على احترام الزمن المدرسي وجودة الاداء داخل الفصول. وهو مطالب بترجمة التوجيهات التربوية العامة الى ممارسات عملية، رغم ضعف الامكانيات، وتفاوت المستويات، وغياب التكوين المستمر المتخصص، مما يضعه في موقع الوسيط بين الطموح الاصلاحي والواقع المدرسي الصعب.
ولا تقل مهام رئيس الاشغال تعقيدا، اذ يتحمل مسؤولية تنظيم الورشات والمختبرات، وضمان السلامة داخلها، وتتبع التجهيزات والمواد، وتنسيق العمل التطبيقي مع الاساتذة، خاصة في الشعب التقنية والمهنية. وفي حالة وقوع حادث داخل ورشة او مختبر، يكون رئيس الاشغال في صلب المساءلة، رغم محدودية الوسائل، وقدم التجهيزات، وغياب اطار قانوني واضح يحدد حدود مسؤوليته.
يتحمل المتصرف التربوي، بمختلف مهامه، المسؤولية القانونية المباشرة عن كل ما يقع داخل المؤسسة التعليمية، من حوادث التلاميذ، الى سلامة البنايات، وتدبير الموارد، والشكايات الادارية، بل وحتى نتائج اختلالات بنيوية لا سلطة له على اصلاحها. وفي حالات كثيرة، تنتهي المساءلة عند باب مكتب الادارة، باعتبارها الواجهة الادارية الاولى. غير ان هذه المسؤولية الثقيلة لا يقابلها نظام تعويض عادل، ولا حماية قانونية واضحة، ولا مسار مهني يعكس حجم المخاطر المتحملة، مما يكشف اختلالا عميقا في مبدأ العدالة الوظيفية.
غياب نظام اساسي مستقل يجعل المتصرف التربوي، سواء كان مديرا او حارسا عاما او ناظرا او مدير دراسة او رئيس اشغال، يشتغل داخل منطقة رمادية. تتراكم سنوات الخبرة، وتتوسع المهام، لكن الافق المهني يظل محدودا، والترقية بطيئة، والتقييم غير منصف في كثير من الاحيان. وفي الواقع المهني، نجد اطر الادارة التربوية يقودون مؤسسات معقدة، وينجحون في تدبير اوضاع صعبة، لكنهم يشتغلون بنفس الوضعية القانونية لسنوات طويلة، وهو ما ينتج ارهاقا مهنيا صامتا، ويهدد استمرارية الكفاءة داخل الادارة التربوية.
من المفارقات اللافتة ان المتصرف التربوي مطالب بالابتكار وحل الاشكالات محليا، لكنه يحاسب احيانا بمنطق حرفي جامد. كل محاولة لتكييف الزمن المدرسي، او معالجة الهدر، او تنظيم الداخليات، او تطوير العمل التطبيقي، او بناء شراكات مع المحيط، قد تجهض بسبب غياب سند قانوني واضح، رغم وجاهة المقترح تربويا وتنظيميا. وهكذا يجد نفسه بين خطاب رسمي يشجعه على المبادرة، وواقع اداري يقيده بالخوف من المساءلة.
كل مشاريع الاصلاح التربوي تمر حتما عبر المؤسسة التعليمية، وكلها تلقى على عاتق المتصرف التربوي باعتباره المخطط والمنسق والمتتبع. ومع ذلك، يشتغل هذا الفاعل المركزي غالبا دون توصيف دقيق للمهام، ودون تكوين كاف في مجالات التدبير المتقدم، ودون اطار قانوني يضمن الاستقرار والتحفيز. والنتيجة ان الادارة التربوية تتحول من رافعة للاصلاح الى حلقة مثقلة بالضغط والانتظارات المتناقضة.
في السنوات الاخيرة، تحولت الادارة التربوية لدى كثيرين الى خيار اضطراري، لا اختيار مهني نابع من القناعة، بسبب ضغط المسؤوليات، وضعف الاعتراف، وتنامي المخاطر. وهذا معطى مقلق، لان المدرسة العمومية لا تقاد بمنطق التدبير اليومي فقط، بل تحتاج الى قيادة تربوية مستقرة، واعية بدورها، ومحصنة قانونيا، وقادرة على تحويل السياسات العمومية الى ممارسات فعالة داخل الفصول والساحات والداخليات والورشات المدرسية.
ان الحديث عن النظام الاساسي المستقل للمتصرف التربوي هو في عمقه حديث عن اعادة بناء موقع الادارة التربوية داخل منظومة التعليم، وعن ضرورة ملاءمة النص القانوني مع واقع الممارسة المهنية. فحين لا يعترف القانون بثقل الدور، تصبح القيادة عبئا، وحين يغيب الاطار العادل، تتحول المسؤولية الى استنزاف صامت، وتظل المدرسة العمومية تؤدي ثمن هذا الاختلال.

رشيد عوبدة

رابط مختصر

عذراً التعليقات مغلقة